[b]الموت ينام بالقرب من احلامه :
" سأقضي ما تبقى من أيام حياتي أبحث عن جثته . في كل مكان : في كوبا في فنزويلا ، في بوليفيا ، لا يهم . فأنا لا أصدق انهم أستطاعوا القضاء عليه وانا لا اصدق انه مات ولا أصدق انهم أحرقوه ."
لم يصدق الوالد أنه مات كان يتصور أن الموت يهرب من تشي وأنه سئم مطاردته .
وكان الموت بالنسبة الى "تشي" الحقيقة اليومية يرافقه خطوة خطوة كالربو والزفير والشعلة المتململة والنوم . كان ينام بالقرب من أحلامه ، يشاطره في احلامه ، ينافسه في أحلامه .
مرة ، قال لرفيق له كان يقاتل بجانبه في الادغال ، والرصاص ينهال عليهما :
-"اتدري كيف اتمنى ان أموت ؟كما تمنى قصة بطل "جاك لندن " . ادرك انه سيتجمد حتى الموت في أراضي الاسكا البيضاء المقفرة ،فاستند بهدوء الى شجرة ، واستعد لمواجهة الموت بصمت وكبرياء . كم اتمنى الان لو استريح على جذع شجرة ،ليهدأ الزفير داخلي ، وأموت ، بعد ان أفرغ رصاص بندقيتي في الجنود القادمين من وراء هذه الأشجار . "
كان ذلك سنة 1957 ، قبل الدخول الى المدينة والانتصار .
ومرة ، قال لكاسترو ، في الرسالة الاخيرة التي وجهها اليه:
- ذات يوم ، سئلنا عن الشخص الذي ينبغي انذاره ام اعلامه عند موت أحدنا .
وفوجئنا جميعا بهذه الامكانية الحقيقية . ثم ادركنا ان الثائر الحقيقي "اما أن ينتصر او يموت . وكثيرون سقطوا في طريق النصر الطويل . "
كان ذلك سنة 1965 .
ومرة ثالثة ، قال في البيان الثوري الذي وزعه في نيسان 1967 :
-" لا يهمني متى واين سأموت ."
لكن يهمني ان يبقى الثوار منتصبين ، يملأون الارض ضجيجا ، كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق اجساد البائسين والفقراء والمظلومين .
ثم سقط أخيرا في الخريف ، مع سقوط أوراق الاشجار التعبة .
لكنه لم يحقق امنيته التي رددها امام صديق له في فترة النضال الاولى: لم يمت وهو مستند الى الشجرة ، بل سقط مجندلا في واد صغير ضيق ، بتسع رصاصات ، ربما أقل ،ربما أكثر . والتقطوه وحملوه ووضعوه على طاولة عالية ،ثم قالوا للصحافيين والمصورين والعالم أجمع :
"- هذا هو "تشي" غيفارا . لقد انتصرنا عليه ."
بدأت المرحلة الاخيرة من المطاردة الني استمرت أكثر من سنتين ،واستعملت الولايات المتحدة مختلف الوسائل للقضاء على موجة حرب العصابات التي يقودها "تشي" غيفارا ، في نيسان 1967 ، بعد ان القت السلطات البوليفية القبض على المفكؤ الفرنسي الماركسي ريجيس دوبريه ، واتهمته بالتعاون مع غيفارا وأنصاره ، وسجنته وعذبته لتنتزع منه اعترافا بمكان غيفارا .
وبعد ذلك بفترة قصيرة ، أعلن رئيس الجمهورية البوليفية الجنرال رونيه بارينتوس بأنه واثق هذه المرة من القبض على غيفارا حيا أو ميتا .
ولم يكن بارينتوس يعتمد في عملية مطاردة واصطياد غيفارا على رجاله وحدهم ، ولا على بعض رجال العصابات الذين تخلوا عن غيفارا وحاولوا الكشف عن مكانه ، بل كان يعتمد على قوات متخصصة في حرب العصابات والتصدي للثوار بوسائل علمية مدروسة دقيقة .
القبعات الخضر والحرب المضادة
ففي باناما، أنشأت وزارة الدفاع الاميركية سنة 1949 مدرسة حربية وسلمتها للجنرال بورتر . وفي هذه المدرسة يتدرب جنود أميركيون من مختلف أنحاء اميركا الجنوبية والشمالية ، على يد ضباط يمنازون بكفاءة علمية عالية ، ويتخرجون متخصصين بالحرب في مناطق أميركا اللاتينية الصعبة الشائكة .
لكن هذه المدرسة ادخلت في السنوات الاخيرة بابا جديدا على منهاجها ، وهو على تدريب الجنود على اصول واساليب حرب العصابات ، لمواجهة موجات الثوار في اميركا اللاتينية . ويستمر التدريب اربعين اسبوعا" ، يخضع خلالها الجنود لاشد وأقصى أنواع التدريب العسكري ، ويضع في الظروف نفسها التي سيتعرض لها حين يواجه رجال العصابات في الجبال والغابات .
كان هؤلاء الجنود ، المدربون على ايدي القبعات الخضر - وهو اللقب الذي يطلق على مدرسة باناما - هم الذين يطاردون غيفارا ، وينصبون له الفخ تلو الفخ ، لايقاعه والقضاء عليه .
واستمرت هذه العملية شهورا، حتى جاء الخريف ، واطل شهر تشرين الاول ، غاذا بالجنرال بارينتوس يعلن للصحافيين ان القوات المسلحة ، وهو يقصد فيها القوات التي تدربت في مدرسة باناما ، تحاصر جماعة من رجال العصابات وعلى رأسها القائد رامون وهو احد اسماء غيفارا المستعارة .
وفال بارينتوس هذه المرة سوف نقبض على "تشي" ولن يستطيع ان يهرب منا " .
لكن القوات لم تستطع ان تقبض الا على ثائرين من رجال " رامون " اعترفا بأن تشي هو فعلا قائدهما وأنه موجود في مكان ما بالقرب من منطقة فاليغراندي .وقال الرجلان بأن مرض الربو قد اشتد على غيفارا ، ولم يعد يستطيع التنفس الا بصعوبة ، وانه لا يتحرك الا على ظهر بغل ، وهو لا يهتم بشيء ، ويظهر احتقارا بالغا لحياته .
وبعد ايام من القبض على الرجلين ، وفي مساء بوم الاحد 8 تشرين الاول ، دارت معركة طاحنة بين القوات المسلحة وبين رجال العصابات في منطقة هيغوبراس بالقرب من فالنغراندي واستبسل الثوار ، وفي النهاية ستة من رجالهم ، وبينهم تشي غيفارا .
وتقول بعض الروايات البوليفية عن موت غيفارا ، ومنها رواية القائد الاعلى للقوات البوليفية الجنرال الفريدو اوفاندو ، ان غيفارا قال قبل وفاته ، وهو في ساعات احتضاره الاخيرة: " انا "تشي" غيفارا. لقد فشلت ". لكن الكولونيل سانديكو ، وهو الذي قاد الحملة المسلحة ضد غيفارا وثواره ، ذكر أن تشي ظل فاقدا وعيه حتى مات .
وهناك رواية اخرى ، نسبتها احدى الصحف البوليفية الى بعض الضباط الذين طاردوا تشي غيفارا ، وتقول ان غيفارا اسر حيا ، وحاول الطبيب معالجته من الجروح التي اصيب بها لكن الالم كان شديدا عليه ، ومرض الربو كان يمنعه من التنفس الا بصعوبة .
وقضى ليلة الاحد في حالة نزاع شديد ، يئن من الاوجاع والزفير ، يطلب من الطبيب أن يعالجه ، حتى قضى عليه الام في صباح الاثنين بعد ان خارت قواه تماما وعجز الطب عن اسعافه .
ورواية أخرى تقول ان غيفارا تعرض للتعذيب بعد القاء القبض عليه ، لكنه لم يعترف بشيء بقتله احد الضباط برصاصة سددت الى قلبه .
وكما تعددت الروايات حول مقتله ، تعددت الروايات حول طريقة تعقبه والقاء القبض عليه. ومن هذه الروايات ولعلها الاقرب الى الصحة ، ان احد رجال العصابات ، من رفاق " تشي " القدامى ، وشى به الى السلطات البوليفية بعد ان أغرته الجائزة التي خصصتها هذه السلطات للقبض على عليه ، وهي في حدود خمسة الاف دولار .
وكان مؤلما حقا أن تشي الذي امن طوال حياته بالاخوة الحقيقية والصداقة والاخلاص والتضحية بين البشرية ، وعاش وعاش على هذه الاخوة والصداقة والاخلاص والتضحية ن وتنتهي حياته بان يبيعه رفيق سلاح قديم ، لان المال كان اقوى من القيم والمبادئ التي يمثلها غيفارا او يدعو اليها .
ولم تصدق عائلة تشي انه مات . لا الاب ، ولا الشقيق ، ولا أي فرد من افراد العائلة . وما زالوا ينتظرون بين اللحظة والاخرى ان يحمل اليهم البريد ، او صديق من الاصدقاء ، رسالة من الابن المشرد ، يعلن فيها للعالم انه ما زال حيا ، ويسخر ، كعادته من الموت .
منذ اختفائه قتلوا تشي عدة مرات . وفي كل مرة مان ينفض الموت عنه ، ويبدو انه اقوى واصمد .
هذه المرة ، يبدو ان تشي اقتنع انه مات . وان جثته احرقت فعلا ، كما قالت السلطات البوليفية . ولعله استراح ، لعله لم يعد يضايقه زفير الربو ، ولا المطاردة القاسية المستمرة .
مساء الاحد 15 تشرين الاول ، يقف فيديل كاسترو ، رفيق تشي في النضال ، ويعلن في خطاب دام ساعتين ، وبلهجة حزينة حزينة : اننا متأكدون تماما من موت غيفارا . لقد درسنا جميع الوثائق التي تتعلق بموته : الصور ، فقرات يومياته التي نشرت ، الظروف التي رافقت لحظاته الاخيرة وتأكدنا للاسف أن تشي مات فعلا .
وانا لا اعتقد بان للحكومة البوليفية مصلحة في اختراع كذبة كبيرة كهذه ، قد تنكشف بعد ايام قلائل . كان يطارد غيفارا في الاسابيع الاخيرة اكثر من 1500 جندي ، مدربين احسن تدريب ، واسطاع هؤلاء ان يقضوا في النهاية عليه . ثم حاولت السلطات البوليفية القضاء ايضا على اسطورته ، فلفقت العبارات الاخيرة التي زعمت بان تشي تفوه بها ، والتي تعلن فشله . لكن النضال سيستمر بعد موت تشي والحركة الثورية لن تتوقف .
أميركا اللاتينية 20 جمهورية و535 انقلابا"
عشرون جمهورية تمتد على طوال 15 الف كيلومتر ، وتحتل 15% من الكرة الارضية . 3 قرون من السيطرة الاستعمارية . 535 انقلابا واكثر من الف حركة تمرد عسكرية خلال 150 سنة من الاستقلال ، اذ نالت دول أميركا اللاتينية استقلالها السياسي بين 1810 و 1830 ، وانتظرت كوبا وحدها حتى القرن التاسع عشر لتحصل على الاستقلال . 23 مرة تدخلت الولايات المتحدة في شؤون اميركا اللاتينية . 230 مليون نسمة اليوم ، 300 مليون نسمة عام 1970 ، 600 مليون في نهاية القرن . نصف سكان اكيركا اللاتينية لا يصل دخلهم السنوي الى 100 دولار . 140 مليون يعملون يعملون في أسوأ الظروف بسبب سوء التغذية والمعاملة القاسية. 100 مليون أمي ومريض .
هذه هي اميركا اللاتينية التعيسة بالاقرام .
هل اميركا اللاتينية فقيرة لان الموارد الطبيعية تنقسها ؟
لا ، ابدا .
لا يمكن مقارنة أي قارة اخرى بأميركا اللاتينية ، من حيث نسبة الاراضي الخصبة والصالحة للزرع ، ومن حيث الثورات والامكانيات الطبيعية .
- فنزويلا " تعرق " بالنفط المتدفق من ابارها .
- بوليفيا مليئة بمناجم القصدير .
- تشيلي غنية جدا بالنحاس .
- البرازيل والبراغوي محشوتان بالحديد .
- الغويان مشهورتان بالالمينيوم .
ما هي اذن اسباب تخلف اميركا اللاتينية ؟
لأن الفارق بين ما تنتجه وما تستهلكه لا يستثمر بطريقة تغني المجموع تدريجيا .
المورد الاساسية لدول اميركا اللاتينية هي الزراعة . لكن الزراعة تتقاسمها فئتان :
- الفئة الاولى ، فئة الاغلبية الساحقة التي تشكل الفلاحين الصغار .
- الفئة الثانية ، فئة الملاكين الكبار الذين يشكلون 1.5 % من السكان ، ويحتكرون اكثر من 50% من الاراضي .
الفلاحون الصغار يزرعون حقولا متواضعة ويجهلون مختلف انواع التقدم الفني والتكنولوجي والزراعي . انتاجهم ضئيل ، ويستدينون من المالكين الكبار ومن المرابين بفوائد مرتفعة جدا ، تؤدي بهم اغلب الاحيان لان يرهنوا محاصيلهم لفترة 20 سنة .
بالسنة الى المالكين الكبار ، نجد ان لهم انواع زراعة خاصة بهم : قصب السكر ، البن والقطن . هذه الاصناف ، هي للتصدير الخارجي لا لتغذية الاسواق المحلية الداخلية . والفائض المالي الضخم للمالكين الكبار ، ينتهي على شكل ارصدة كبيرة في المصارف الاجنبية او في الاستهلاكات المقرفة الضخمة كالقصور والخدم الذين لا يحصون ، زالسيارات العديدة ، وما الى ذلك .
سؤال : هل هناك أمل ، يوما ما ، في أن يتخلى هؤلاء الملاكون الكبار عن بعض الاراضي للذين لا يملكون أي قطعة أرض ؟
الجواب بديهي وواصح : لا . هذه الطبقة الحاكمة المتأصلة جذورها في ملكية الاراضي ، لا يمكن ان تتخلى طوعا عن اسباب وجودها .
من يرغمها؟
لا أحد ، سوى الثوار .
ويلاحظ المتتبع لاحوال وأوضاع أميركا اللاتينية ، ان ليس هنتك نزاعات مصالح أساسية بين الملاكين الكبار والرأسماليين : الملاكون الكبار يستثمرون جزءا" كبيرا من اموالهم في المدينة ، والتجار والصناعيون وأصحاب المصارف يشترون الاراضي .البورجوازية في اميركا اللاتينية تملك اليوم الاراضي والرأسمال ، فهناك اذن امل ضئيل في حدوث اصلاح زراعي حقيقي في ظل الرأسمالية .
والنتيجة ؟
تحالف سياسي اجتماعي يوصد الابواب أمام التقدم الاقتصادي ، ويعيش في رعب دائم من نقمة شعبية جماهيرية متوقعة .
من يضمن قوة هذا التحالف السياسي الاجتماعي واسمراره ؟
الجيش .
الجيش يبتلع 40 أو 50 % من معظم موازنات دول أميركا اللاتينية .
و لكن ، هل يكفي التضامن مع الجيش ؟
لا .
يجب التحالف مع قوة خارجية جبارة تضمن " الاستقلال والحرية " لهذا التحالف .
ووجدت غالبية دول أميركا اللاتينية ، أن التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة ، الى حد رهن الاستقلال الوطني معها ، هو أفضل طريق للاستمرار .
وهكذا ، نرى أن الشركات الاميركية الكبرى هي التي تسيطر على معظم اقتصاد دول أمريكا اللاتينية . وهذه الشركات هي :
- ستاندرت أوبل ، شل ، غولف ، سوكوني ، وهي تسيطر على نفط فنزويلا .
- ايرون مينيغ واوربنكو ، وهما فرعان من شركة " يونايتد ستايتز ستيل "
و" بتيليم ستيل " ، تسيطران على حديد فنزويلا والبرازيل .
- اندرسون كلايتون تسيطر على قطن البيرو والمكسيك .
- يونايتد فروت كومباني ، تسيطر في اميركا الوسطى على أقتصاد غواتيمالا ونيكاراغوا وهندوراس .
هذه الشركات الضخمة وامثالها ، " تصدر " القسم الاكبر من الارباح الى الولايات المتحدة ، بدلا من استثمارها في مشاريع داخل دول أميركا اللاتينية .
الصورة واضحة : لا يكفي أن تمتلك أميركا اللاتينية الثورات الوطنية الضخمة لتصبح غنية ويعيش أهلها برخاء ، بل يجب أستغلال هذه الثروات بطريقة عادلة ومنطقية .
طبقة الفلاحين تستيقظ بعنف[/b][center]
" سأقضي ما تبقى من أيام حياتي أبحث عن جثته . في كل مكان : في كوبا في فنزويلا ، في بوليفيا ، لا يهم . فأنا لا أصدق انهم أستطاعوا القضاء عليه وانا لا اصدق انه مات ولا أصدق انهم أحرقوه ."
لم يصدق الوالد أنه مات كان يتصور أن الموت يهرب من تشي وأنه سئم مطاردته .
وكان الموت بالنسبة الى "تشي" الحقيقة اليومية يرافقه خطوة خطوة كالربو والزفير والشعلة المتململة والنوم . كان ينام بالقرب من أحلامه ، يشاطره في احلامه ، ينافسه في أحلامه .
مرة ، قال لرفيق له كان يقاتل بجانبه في الادغال ، والرصاص ينهال عليهما :
-"اتدري كيف اتمنى ان أموت ؟كما تمنى قصة بطل "جاك لندن " . ادرك انه سيتجمد حتى الموت في أراضي الاسكا البيضاء المقفرة ،فاستند بهدوء الى شجرة ، واستعد لمواجهة الموت بصمت وكبرياء . كم اتمنى الان لو استريح على جذع شجرة ،ليهدأ الزفير داخلي ، وأموت ، بعد ان أفرغ رصاص بندقيتي في الجنود القادمين من وراء هذه الأشجار . "
كان ذلك سنة 1957 ، قبل الدخول الى المدينة والانتصار .
ومرة ، قال لكاسترو ، في الرسالة الاخيرة التي وجهها اليه:
- ذات يوم ، سئلنا عن الشخص الذي ينبغي انذاره ام اعلامه عند موت أحدنا .
وفوجئنا جميعا بهذه الامكانية الحقيقية . ثم ادركنا ان الثائر الحقيقي "اما أن ينتصر او يموت . وكثيرون سقطوا في طريق النصر الطويل . "
كان ذلك سنة 1965 .
ومرة ثالثة ، قال في البيان الثوري الذي وزعه في نيسان 1967 :
-" لا يهمني متى واين سأموت ."
لكن يهمني ان يبقى الثوار منتصبين ، يملأون الارض ضجيجا ، كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق اجساد البائسين والفقراء والمظلومين .
ثم سقط أخيرا في الخريف ، مع سقوط أوراق الاشجار التعبة .
لكنه لم يحقق امنيته التي رددها امام صديق له في فترة النضال الاولى: لم يمت وهو مستند الى الشجرة ، بل سقط مجندلا في واد صغير ضيق ، بتسع رصاصات ، ربما أقل ،ربما أكثر . والتقطوه وحملوه ووضعوه على طاولة عالية ،ثم قالوا للصحافيين والمصورين والعالم أجمع :
"- هذا هو "تشي" غيفارا . لقد انتصرنا عليه ."
بدأت المرحلة الاخيرة من المطاردة الني استمرت أكثر من سنتين ،واستعملت الولايات المتحدة مختلف الوسائل للقضاء على موجة حرب العصابات التي يقودها "تشي" غيفارا ، في نيسان 1967 ، بعد ان القت السلطات البوليفية القبض على المفكؤ الفرنسي الماركسي ريجيس دوبريه ، واتهمته بالتعاون مع غيفارا وأنصاره ، وسجنته وعذبته لتنتزع منه اعترافا بمكان غيفارا .
وبعد ذلك بفترة قصيرة ، أعلن رئيس الجمهورية البوليفية الجنرال رونيه بارينتوس بأنه واثق هذه المرة من القبض على غيفارا حيا أو ميتا .
ولم يكن بارينتوس يعتمد في عملية مطاردة واصطياد غيفارا على رجاله وحدهم ، ولا على بعض رجال العصابات الذين تخلوا عن غيفارا وحاولوا الكشف عن مكانه ، بل كان يعتمد على قوات متخصصة في حرب العصابات والتصدي للثوار بوسائل علمية مدروسة دقيقة .
القبعات الخضر والحرب المضادة
ففي باناما، أنشأت وزارة الدفاع الاميركية سنة 1949 مدرسة حربية وسلمتها للجنرال بورتر . وفي هذه المدرسة يتدرب جنود أميركيون من مختلف أنحاء اميركا الجنوبية والشمالية ، على يد ضباط يمنازون بكفاءة علمية عالية ، ويتخرجون متخصصين بالحرب في مناطق أميركا اللاتينية الصعبة الشائكة .
لكن هذه المدرسة ادخلت في السنوات الاخيرة بابا جديدا على منهاجها ، وهو على تدريب الجنود على اصول واساليب حرب العصابات ، لمواجهة موجات الثوار في اميركا اللاتينية . ويستمر التدريب اربعين اسبوعا" ، يخضع خلالها الجنود لاشد وأقصى أنواع التدريب العسكري ، ويضع في الظروف نفسها التي سيتعرض لها حين يواجه رجال العصابات في الجبال والغابات .
كان هؤلاء الجنود ، المدربون على ايدي القبعات الخضر - وهو اللقب الذي يطلق على مدرسة باناما - هم الذين يطاردون غيفارا ، وينصبون له الفخ تلو الفخ ، لايقاعه والقضاء عليه .
واستمرت هذه العملية شهورا، حتى جاء الخريف ، واطل شهر تشرين الاول ، غاذا بالجنرال بارينتوس يعلن للصحافيين ان القوات المسلحة ، وهو يقصد فيها القوات التي تدربت في مدرسة باناما ، تحاصر جماعة من رجال العصابات وعلى رأسها القائد رامون وهو احد اسماء غيفارا المستعارة .
وفال بارينتوس هذه المرة سوف نقبض على "تشي" ولن يستطيع ان يهرب منا " .
لكن القوات لم تستطع ان تقبض الا على ثائرين من رجال " رامون " اعترفا بأن تشي هو فعلا قائدهما وأنه موجود في مكان ما بالقرب من منطقة فاليغراندي .وقال الرجلان بأن مرض الربو قد اشتد على غيفارا ، ولم يعد يستطيع التنفس الا بصعوبة ، وانه لا يتحرك الا على ظهر بغل ، وهو لا يهتم بشيء ، ويظهر احتقارا بالغا لحياته .
وبعد ايام من القبض على الرجلين ، وفي مساء بوم الاحد 8 تشرين الاول ، دارت معركة طاحنة بين القوات المسلحة وبين رجال العصابات في منطقة هيغوبراس بالقرب من فالنغراندي واستبسل الثوار ، وفي النهاية ستة من رجالهم ، وبينهم تشي غيفارا .
وتقول بعض الروايات البوليفية عن موت غيفارا ، ومنها رواية القائد الاعلى للقوات البوليفية الجنرال الفريدو اوفاندو ، ان غيفارا قال قبل وفاته ، وهو في ساعات احتضاره الاخيرة: " انا "تشي" غيفارا. لقد فشلت ". لكن الكولونيل سانديكو ، وهو الذي قاد الحملة المسلحة ضد غيفارا وثواره ، ذكر أن تشي ظل فاقدا وعيه حتى مات .
وهناك رواية اخرى ، نسبتها احدى الصحف البوليفية الى بعض الضباط الذين طاردوا تشي غيفارا ، وتقول ان غيفارا اسر حيا ، وحاول الطبيب معالجته من الجروح التي اصيب بها لكن الالم كان شديدا عليه ، ومرض الربو كان يمنعه من التنفس الا بصعوبة .
وقضى ليلة الاحد في حالة نزاع شديد ، يئن من الاوجاع والزفير ، يطلب من الطبيب أن يعالجه ، حتى قضى عليه الام في صباح الاثنين بعد ان خارت قواه تماما وعجز الطب عن اسعافه .
ورواية أخرى تقول ان غيفارا تعرض للتعذيب بعد القاء القبض عليه ، لكنه لم يعترف بشيء بقتله احد الضباط برصاصة سددت الى قلبه .
وكما تعددت الروايات حول مقتله ، تعددت الروايات حول طريقة تعقبه والقاء القبض عليه. ومن هذه الروايات ولعلها الاقرب الى الصحة ، ان احد رجال العصابات ، من رفاق " تشي " القدامى ، وشى به الى السلطات البوليفية بعد ان أغرته الجائزة التي خصصتها هذه السلطات للقبض على عليه ، وهي في حدود خمسة الاف دولار .
وكان مؤلما حقا أن تشي الذي امن طوال حياته بالاخوة الحقيقية والصداقة والاخلاص والتضحية بين البشرية ، وعاش وعاش على هذه الاخوة والصداقة والاخلاص والتضحية ن وتنتهي حياته بان يبيعه رفيق سلاح قديم ، لان المال كان اقوى من القيم والمبادئ التي يمثلها غيفارا او يدعو اليها .
ولم تصدق عائلة تشي انه مات . لا الاب ، ولا الشقيق ، ولا أي فرد من افراد العائلة . وما زالوا ينتظرون بين اللحظة والاخرى ان يحمل اليهم البريد ، او صديق من الاصدقاء ، رسالة من الابن المشرد ، يعلن فيها للعالم انه ما زال حيا ، ويسخر ، كعادته من الموت .
منذ اختفائه قتلوا تشي عدة مرات . وفي كل مرة مان ينفض الموت عنه ، ويبدو انه اقوى واصمد .
هذه المرة ، يبدو ان تشي اقتنع انه مات . وان جثته احرقت فعلا ، كما قالت السلطات البوليفية . ولعله استراح ، لعله لم يعد يضايقه زفير الربو ، ولا المطاردة القاسية المستمرة .
مساء الاحد 15 تشرين الاول ، يقف فيديل كاسترو ، رفيق تشي في النضال ، ويعلن في خطاب دام ساعتين ، وبلهجة حزينة حزينة : اننا متأكدون تماما من موت غيفارا . لقد درسنا جميع الوثائق التي تتعلق بموته : الصور ، فقرات يومياته التي نشرت ، الظروف التي رافقت لحظاته الاخيرة وتأكدنا للاسف أن تشي مات فعلا .
وانا لا اعتقد بان للحكومة البوليفية مصلحة في اختراع كذبة كبيرة كهذه ، قد تنكشف بعد ايام قلائل . كان يطارد غيفارا في الاسابيع الاخيرة اكثر من 1500 جندي ، مدربين احسن تدريب ، واسطاع هؤلاء ان يقضوا في النهاية عليه . ثم حاولت السلطات البوليفية القضاء ايضا على اسطورته ، فلفقت العبارات الاخيرة التي زعمت بان تشي تفوه بها ، والتي تعلن فشله . لكن النضال سيستمر بعد موت تشي والحركة الثورية لن تتوقف .
أميركا اللاتينية 20 جمهورية و535 انقلابا"
عشرون جمهورية تمتد على طوال 15 الف كيلومتر ، وتحتل 15% من الكرة الارضية . 3 قرون من السيطرة الاستعمارية . 535 انقلابا واكثر من الف حركة تمرد عسكرية خلال 150 سنة من الاستقلال ، اذ نالت دول أميركا اللاتينية استقلالها السياسي بين 1810 و 1830 ، وانتظرت كوبا وحدها حتى القرن التاسع عشر لتحصل على الاستقلال . 23 مرة تدخلت الولايات المتحدة في شؤون اميركا اللاتينية . 230 مليون نسمة اليوم ، 300 مليون نسمة عام 1970 ، 600 مليون في نهاية القرن . نصف سكان اكيركا اللاتينية لا يصل دخلهم السنوي الى 100 دولار . 140 مليون يعملون يعملون في أسوأ الظروف بسبب سوء التغذية والمعاملة القاسية. 100 مليون أمي ومريض .
هذه هي اميركا اللاتينية التعيسة بالاقرام .
هل اميركا اللاتينية فقيرة لان الموارد الطبيعية تنقسها ؟
لا ، ابدا .
لا يمكن مقارنة أي قارة اخرى بأميركا اللاتينية ، من حيث نسبة الاراضي الخصبة والصالحة للزرع ، ومن حيث الثورات والامكانيات الطبيعية .
- فنزويلا " تعرق " بالنفط المتدفق من ابارها .
- بوليفيا مليئة بمناجم القصدير .
- تشيلي غنية جدا بالنحاس .
- البرازيل والبراغوي محشوتان بالحديد .
- الغويان مشهورتان بالالمينيوم .
ما هي اذن اسباب تخلف اميركا اللاتينية ؟
لأن الفارق بين ما تنتجه وما تستهلكه لا يستثمر بطريقة تغني المجموع تدريجيا .
المورد الاساسية لدول اميركا اللاتينية هي الزراعة . لكن الزراعة تتقاسمها فئتان :
- الفئة الاولى ، فئة الاغلبية الساحقة التي تشكل الفلاحين الصغار .
- الفئة الثانية ، فئة الملاكين الكبار الذين يشكلون 1.5 % من السكان ، ويحتكرون اكثر من 50% من الاراضي .
الفلاحون الصغار يزرعون حقولا متواضعة ويجهلون مختلف انواع التقدم الفني والتكنولوجي والزراعي . انتاجهم ضئيل ، ويستدينون من المالكين الكبار ومن المرابين بفوائد مرتفعة جدا ، تؤدي بهم اغلب الاحيان لان يرهنوا محاصيلهم لفترة 20 سنة .
بالسنة الى المالكين الكبار ، نجد ان لهم انواع زراعة خاصة بهم : قصب السكر ، البن والقطن . هذه الاصناف ، هي للتصدير الخارجي لا لتغذية الاسواق المحلية الداخلية . والفائض المالي الضخم للمالكين الكبار ، ينتهي على شكل ارصدة كبيرة في المصارف الاجنبية او في الاستهلاكات المقرفة الضخمة كالقصور والخدم الذين لا يحصون ، زالسيارات العديدة ، وما الى ذلك .
سؤال : هل هناك أمل ، يوما ما ، في أن يتخلى هؤلاء الملاكون الكبار عن بعض الاراضي للذين لا يملكون أي قطعة أرض ؟
الجواب بديهي وواصح : لا . هذه الطبقة الحاكمة المتأصلة جذورها في ملكية الاراضي ، لا يمكن ان تتخلى طوعا عن اسباب وجودها .
من يرغمها؟
لا أحد ، سوى الثوار .
ويلاحظ المتتبع لاحوال وأوضاع أميركا اللاتينية ، ان ليس هنتك نزاعات مصالح أساسية بين الملاكين الكبار والرأسماليين : الملاكون الكبار يستثمرون جزءا" كبيرا من اموالهم في المدينة ، والتجار والصناعيون وأصحاب المصارف يشترون الاراضي .البورجوازية في اميركا اللاتينية تملك اليوم الاراضي والرأسمال ، فهناك اذن امل ضئيل في حدوث اصلاح زراعي حقيقي في ظل الرأسمالية .
والنتيجة ؟
تحالف سياسي اجتماعي يوصد الابواب أمام التقدم الاقتصادي ، ويعيش في رعب دائم من نقمة شعبية جماهيرية متوقعة .
من يضمن قوة هذا التحالف السياسي الاجتماعي واسمراره ؟
الجيش .
الجيش يبتلع 40 أو 50 % من معظم موازنات دول أميركا اللاتينية .
و لكن ، هل يكفي التضامن مع الجيش ؟
لا .
يجب التحالف مع قوة خارجية جبارة تضمن " الاستقلال والحرية " لهذا التحالف .
ووجدت غالبية دول أميركا اللاتينية ، أن التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة ، الى حد رهن الاستقلال الوطني معها ، هو أفضل طريق للاستمرار .
وهكذا ، نرى أن الشركات الاميركية الكبرى هي التي تسيطر على معظم اقتصاد دول أمريكا اللاتينية . وهذه الشركات هي :
- ستاندرت أوبل ، شل ، غولف ، سوكوني ، وهي تسيطر على نفط فنزويلا .
- ايرون مينيغ واوربنكو ، وهما فرعان من شركة " يونايتد ستايتز ستيل "
و" بتيليم ستيل " ، تسيطران على حديد فنزويلا والبرازيل .
- اندرسون كلايتون تسيطر على قطن البيرو والمكسيك .
- يونايتد فروت كومباني ، تسيطر في اميركا الوسطى على أقتصاد غواتيمالا ونيكاراغوا وهندوراس .
هذه الشركات الضخمة وامثالها ، " تصدر " القسم الاكبر من الارباح الى الولايات المتحدة ، بدلا من استثمارها في مشاريع داخل دول أميركا اللاتينية .
الصورة واضحة : لا يكفي أن تمتلك أميركا اللاتينية الثورات الوطنية الضخمة لتصبح غنية ويعيش أهلها برخاء ، بل يجب أستغلال هذه الثروات بطريقة عادلة ومنطقية .
طبقة الفلاحين تستيقظ بعنف[/b][center]